في حياتك المهنية كمحامي تمر عليك أحداث كثيرة ومثيرة تحدث في أروقة المحاكم, فحياتنا المهنية هناك كثيراً ما تكون مليئة بالإثارة والتشويق, وأحياناُ كثيرة تدعو هذه الأحداث للسخرية, وفي واقع مدينة القدس الإحتلالي, وعلى ضوء الحقيقة أن هذه المحاكم ترتدي ثوب القانون لتغطية سوءة الإحتلال وعيوبه, فكثيراً ما تكون هذه الأحداث ولشدة سخريتها مدعاةً للبكاء.
سأحاول سرد بعض الخواطر والأحداث "المثيرة للسخرية" وأحياناً للبكاء والتي صادفتني في أروقة المحاكم, فعل في هذه الخواطر ما يدعونا للتفكير والتدبر في حقيقة ما يدور حولنا وما يحاك لنا.
سيكون أسلوب الخواطر قصصياً مشوقاً, ووعد مني أنك لن تمل من القراءة.
- حين أثارت دير ياسين جنون القاضية:
كنت أجلس في قاعة المحكمة بتوتر وغضب منتظراً دوري, فقد مضى على جلوسي في القاعة قرابة النصف ساعة ولم يحن موعد محكمتي بعد, فالجلسات في محكمة الشؤون المحلية كالسوق تماماً, عشرات الناس والمحاميين يتم دعوته لنفس الساعة, فتغص القاعة فيهم وكلهم ينتظر دوره بغضب وتبرم.
على يساري جلست أمرأتان يبدو عليهما الكبر في السن, إحداهما بان عليها أن عمرها فوق الثمانين سنة, فتجاعيد وجهها كانت علامة لقسوة السنين ومرارتها. شاب في منتصف الثلاثينات كان يرافقهما, حاول التحدث الى المدعية العامة بموضوع محكمة السيدتين قبل بدايتها, ولكنها نهرته ولم تعره إهتماماً.
كثيراً ما يحدث للعرب في المحكمة أن يتم نهرهم وتهميشهم, إما من المدعي العام ممثل دولة إسرائيل, وإما من قبل القضاة أنفسهم مطبقين قانون دولة إسرائيل, فنظرة التكبر والإحتقار والتقليل من شأن العرب هما أمر واضح في أروقة المحاكم, خاصة إتجاه الناس البسطاء الذين يحضرون للمحكمة من دون محامي.
أحياناً نظرة التكبر ونهج التكبر تكون من نصيب المحاميين وضدهم أيضاً,ً فنحن في عيونهم "مجرد عرب" ودرجةً أقل منهم في نظرهم, وفإن لم تكون كمحامي أفضل منهم وأكثر منهم معرفة وحنكة فإنك لن تكسب إحترامهم والهيبة.
أخيراً جاء دور قضيتي, لم أذكر ما كان موضوعها, ولكني أذكر أني غضبت على القاضية وأني أسمعتها رأيي بالمحاكم الإسرائيلية وأن الموجودين هنا مجرد أحجار شطرنج في اللعبة السياسية, وأننا أحياناً كمحاميين وقضاة نسخر من أنفسنا بمجرد عرض إدعائتنا القانونية في محاكم إحتلال.
لم يرق حديثي للقاضية ولكنها إضطرت في النهاية أن لا تجادلني, فقد حدث بيننا عدة نقاشات كان يعلو فيها صوتي وغضبي وكنت أشعر أن القاضية تحس ببعض الخوف, فقد كان عمرها قد تجاوز السبعين سنة وأنا في جيل أحفادها, وكانت طفرة الشباب كما تبدو تخيفها.
بعد إنهاء قضيتي طلبت القاضية الخروج لإستراحة لبضع دقائق, فقد أنهكها تعب الجلوس لثلاث ساعات متتاليات في قاعة المحكمة.
مع خروج القاضية من القاعة توجه إلي ذالك الشاب برفقة السيدتين, وطلب مني تمثيله في قضيته, فكما يبدو أعجبه أسلوبي وظن في نفسه أني محامي جيد ومتمرس في قضايا البناء بدون ترخيص.
كانت قضيته بسيطة نسبياً, قد قام والده قبل سنوات عديدة ببناء بيت صغير مساحته حوالي 30 متراً وذالك لإسكان خالته البالغة من العمر 83 سنة والتي كانت برفقته في المحكمة, والمشكلة أن القضية كانت ضده هو مع أنه لا يسكن في البيت, وكل ما أراده هو تحويل الملف على إسم خالته ومحو إسمه, لأنه كان قد درس محاماة وأراد بدئ فترة التدرب, والملف على إسمه منع منه بدئ التدرب.
تحدثت الى المدعية العامة وشرحت لها الصورة وأنه لا يوجد لهذا الشاب علاقة مع البيت وهو لا يسكنه, وأنه مقبل على التدرب كمحامي والملف ضده يضره. حاولت المدعية العامة إستغلال الفرصة وإجباري على القبول بصفقة إدعاء مجحفة بحق العائلة, طبعاً رفضت ذالك, وحدث ذالك بعد أن أهنت المدعية وأخبرتها برأيي عنها وعن وقاحتها وأني لا أحتاج لموافقتها وسأقنع المحكمة بصدق قضيتي.
بعد دقائق دخلت القاضية لقاعة المحكمة وكانت قد توقعت أني قد خرجت من المحكمة فقد إنتهت قضيتي, فتفاجأت لرؤيتي واقفاُ أمامها. أخبرتها بأني أمثل هذه العائلة وكل ما أطلبه بهذه المرحلة هو شطب إسم الشاب من لائحة الإتهام وتحويل القضية على إسم المرأة لأنه لا يوجد للشاب علاقة بالقضية, وأن الأدلة في ملف البلدية تؤكد ذالك.
حتى قبل سماع موقف البلدية رفضت القاضية الطلب, وقالت بكل صراحة وعبرت عن رأيها بظاهرة البناء غير المرخص في شرقي القدس قائلة أنه برأيها يجب هدم كل البيوت العربية المبنية بدون ترخيص- وعددها ألاف المنازل- لأن الوضع القائم في شرقي القدس هو فوضى عارمة, والعرب لا يحترمون القانون الحضاري.
كانت كلماتها بمثابة سكين غرست في ظهري, فأنا لا أتحمل هذه المصطلحات وكثيراً لا أسيطر على نفسي حين سماعها. فقلت للقاضية بكل غضب, أنه إذا كان هذا موقف المحكمة, فإدعائي هو أنه المحكمة تقوم بجرائم ضد الإنسانية وضد القانون الدولي, لأن شرقي القدس مدينة محتلة ولا صلاحية لسيادة القاضية بإقرار هدم البيوت. وأن هذه المحكمة تنفذ سياسات الحكومة بإفراغ السكان العرب من القدس الشرقية وطردهم, وأن المحكمة ووجودنا فيها هو مجرد لعبة ومهزلة.
طبعاً جن جنون القاضية والمدعية العامة وبدأتا بجدالي ونقاشي بموضوع إحترام القانون كمحامي.
من دون سابق إنذار, وقفت السيدة المسنة والدم يثور في عروقها, وتحدثت مباشرة للمحكمة باللغة العربية وبنبرة صوت فيها الكثير من التحدي والعناد وصرخت أخيراً على القاضية ورفعت يديها للسماء تدعو عليها. لم تفهم القاضية أقوال السيدة وطلبت مني أن أترجم لها ما تقوله السيدة.
فعلت ذالك بكل سرور وغضب, فقد كانت أقوال السيدة تعبر عن ما في صدري.
قلت للقاضية أن السيدة تقول لك : "أنها من قرية دير ياسين وأنها شاهدت بأم عينيها اليهود وهم يذبحون أهلها وأخوتها ويهدمون قريتها, وأن هذه الغرفة التي تأويها هي بيتها الوحيد بعد هدم قريتها, وحتى هذه الغرفة تريدون أنتم اليهود هدمها؟ حسبها الله ونعم الوكيل وربنا ينتقم منك"!
جن جنون القاضية, وتلون وجها بالأحمر والأسود, وقفت عن كرسيها وصرخت :" كيف تجرؤ على ذكر دير ياسين في قاعتي" ؟ كان غضبها شديداً لدرجة أنه بدا عليها أنه سيغمى عليها, أسرعت بالخروج من قاعة المحكمة وهي تصرخ أنها ألغت كل الجلسات وطلبت من الجميع الخروج من القاعة.
خرجنا من القاعة, وبعد دقائق جاءت إحدى المساعدات لتخبرنا أنها تم إلغاء الجلسات, وأنه سيصلنا موعد جديد للمحكمة.
خرجت من قاعة المحكة والرضا والسرور يملؤ صدري. فقد كانت كلمات تلك السيدة التي ترجمتها, تعبر عن مشاعري وأفكاري, فقلت كمترجم ما أعجز عن قوله كمحامي!
يتبع....
- حين أقسمت القاضية أنها لن تدخل القاعة حتى أخرج أنا منها-
سأحاول سرد بعض الخواطر والأحداث "المثيرة للسخرية" وأحياناً للبكاء والتي صادفتني في أروقة المحاكم, فعل في هذه الخواطر ما يدعونا للتفكير والتدبر في حقيقة ما يدور حولنا وما يحاك لنا.
سيكون أسلوب الخواطر قصصياً مشوقاً, ووعد مني أنك لن تمل من القراءة.
- حين أثارت دير ياسين جنون القاضية:
كنت أجلس في قاعة المحكمة بتوتر وغضب منتظراً دوري, فقد مضى على جلوسي في القاعة قرابة النصف ساعة ولم يحن موعد محكمتي بعد, فالجلسات في محكمة الشؤون المحلية كالسوق تماماً, عشرات الناس والمحاميين يتم دعوته لنفس الساعة, فتغص القاعة فيهم وكلهم ينتظر دوره بغضب وتبرم.
على يساري جلست أمرأتان يبدو عليهما الكبر في السن, إحداهما بان عليها أن عمرها فوق الثمانين سنة, فتجاعيد وجهها كانت علامة لقسوة السنين ومرارتها. شاب في منتصف الثلاثينات كان يرافقهما, حاول التحدث الى المدعية العامة بموضوع محكمة السيدتين قبل بدايتها, ولكنها نهرته ولم تعره إهتماماً.
كثيراً ما يحدث للعرب في المحكمة أن يتم نهرهم وتهميشهم, إما من المدعي العام ممثل دولة إسرائيل, وإما من قبل القضاة أنفسهم مطبقين قانون دولة إسرائيل, فنظرة التكبر والإحتقار والتقليل من شأن العرب هما أمر واضح في أروقة المحاكم, خاصة إتجاه الناس البسطاء الذين يحضرون للمحكمة من دون محامي.
أحياناً نظرة التكبر ونهج التكبر تكون من نصيب المحاميين وضدهم أيضاً,ً فنحن في عيونهم "مجرد عرب" ودرجةً أقل منهم في نظرهم, وفإن لم تكون كمحامي أفضل منهم وأكثر منهم معرفة وحنكة فإنك لن تكسب إحترامهم والهيبة.
أخيراً جاء دور قضيتي, لم أذكر ما كان موضوعها, ولكني أذكر أني غضبت على القاضية وأني أسمعتها رأيي بالمحاكم الإسرائيلية وأن الموجودين هنا مجرد أحجار شطرنج في اللعبة السياسية, وأننا أحياناً كمحاميين وقضاة نسخر من أنفسنا بمجرد عرض إدعائتنا القانونية في محاكم إحتلال.
لم يرق حديثي للقاضية ولكنها إضطرت في النهاية أن لا تجادلني, فقد حدث بيننا عدة نقاشات كان يعلو فيها صوتي وغضبي وكنت أشعر أن القاضية تحس ببعض الخوف, فقد كان عمرها قد تجاوز السبعين سنة وأنا في جيل أحفادها, وكانت طفرة الشباب كما تبدو تخيفها.
بعد إنهاء قضيتي طلبت القاضية الخروج لإستراحة لبضع دقائق, فقد أنهكها تعب الجلوس لثلاث ساعات متتاليات في قاعة المحكمة.
مع خروج القاضية من القاعة توجه إلي ذالك الشاب برفقة السيدتين, وطلب مني تمثيله في قضيته, فكما يبدو أعجبه أسلوبي وظن في نفسه أني محامي جيد ومتمرس في قضايا البناء بدون ترخيص.
كانت قضيته بسيطة نسبياً, قد قام والده قبل سنوات عديدة ببناء بيت صغير مساحته حوالي 30 متراً وذالك لإسكان خالته البالغة من العمر 83 سنة والتي كانت برفقته في المحكمة, والمشكلة أن القضية كانت ضده هو مع أنه لا يسكن في البيت, وكل ما أراده هو تحويل الملف على إسم خالته ومحو إسمه, لأنه كان قد درس محاماة وأراد بدئ فترة التدرب, والملف على إسمه منع منه بدئ التدرب.
تحدثت الى المدعية العامة وشرحت لها الصورة وأنه لا يوجد لهذا الشاب علاقة مع البيت وهو لا يسكنه, وأنه مقبل على التدرب كمحامي والملف ضده يضره. حاولت المدعية العامة إستغلال الفرصة وإجباري على القبول بصفقة إدعاء مجحفة بحق العائلة, طبعاً رفضت ذالك, وحدث ذالك بعد أن أهنت المدعية وأخبرتها برأيي عنها وعن وقاحتها وأني لا أحتاج لموافقتها وسأقنع المحكمة بصدق قضيتي.
بعد دقائق دخلت القاضية لقاعة المحكمة وكانت قد توقعت أني قد خرجت من المحكمة فقد إنتهت قضيتي, فتفاجأت لرؤيتي واقفاُ أمامها. أخبرتها بأني أمثل هذه العائلة وكل ما أطلبه بهذه المرحلة هو شطب إسم الشاب من لائحة الإتهام وتحويل القضية على إسم المرأة لأنه لا يوجد للشاب علاقة بالقضية, وأن الأدلة في ملف البلدية تؤكد ذالك.
حتى قبل سماع موقف البلدية رفضت القاضية الطلب, وقالت بكل صراحة وعبرت عن رأيها بظاهرة البناء غير المرخص في شرقي القدس قائلة أنه برأيها يجب هدم كل البيوت العربية المبنية بدون ترخيص- وعددها ألاف المنازل- لأن الوضع القائم في شرقي القدس هو فوضى عارمة, والعرب لا يحترمون القانون الحضاري.
كانت كلماتها بمثابة سكين غرست في ظهري, فأنا لا أتحمل هذه المصطلحات وكثيراً لا أسيطر على نفسي حين سماعها. فقلت للقاضية بكل غضب, أنه إذا كان هذا موقف المحكمة, فإدعائي هو أنه المحكمة تقوم بجرائم ضد الإنسانية وضد القانون الدولي, لأن شرقي القدس مدينة محتلة ولا صلاحية لسيادة القاضية بإقرار هدم البيوت. وأن هذه المحكمة تنفذ سياسات الحكومة بإفراغ السكان العرب من القدس الشرقية وطردهم, وأن المحكمة ووجودنا فيها هو مجرد لعبة ومهزلة.
طبعاً جن جنون القاضية والمدعية العامة وبدأتا بجدالي ونقاشي بموضوع إحترام القانون كمحامي.
من دون سابق إنذار, وقفت السيدة المسنة والدم يثور في عروقها, وتحدثت مباشرة للمحكمة باللغة العربية وبنبرة صوت فيها الكثير من التحدي والعناد وصرخت أخيراً على القاضية ورفعت يديها للسماء تدعو عليها. لم تفهم القاضية أقوال السيدة وطلبت مني أن أترجم لها ما تقوله السيدة.
فعلت ذالك بكل سرور وغضب, فقد كانت أقوال السيدة تعبر عن ما في صدري.
قلت للقاضية أن السيدة تقول لك : "أنها من قرية دير ياسين وأنها شاهدت بأم عينيها اليهود وهم يذبحون أهلها وأخوتها ويهدمون قريتها, وأن هذه الغرفة التي تأويها هي بيتها الوحيد بعد هدم قريتها, وحتى هذه الغرفة تريدون أنتم اليهود هدمها؟ حسبها الله ونعم الوكيل وربنا ينتقم منك"!
جن جنون القاضية, وتلون وجها بالأحمر والأسود, وقفت عن كرسيها وصرخت :" كيف تجرؤ على ذكر دير ياسين في قاعتي" ؟ كان غضبها شديداً لدرجة أنه بدا عليها أنه سيغمى عليها, أسرعت بالخروج من قاعة المحكمة وهي تصرخ أنها ألغت كل الجلسات وطلبت من الجميع الخروج من القاعة.
خرجنا من القاعة, وبعد دقائق جاءت إحدى المساعدات لتخبرنا أنها تم إلغاء الجلسات, وأنه سيصلنا موعد جديد للمحكمة.
خرجت من قاعة المحكة والرضا والسرور يملؤ صدري. فقد كانت كلمات تلك السيدة التي ترجمتها, تعبر عن مشاعري وأفكاري, فقلت كمترجم ما أعجز عن قوله كمحامي!
يتبع....
- حين أقسمت القاضية أنها لن تدخل القاعة حتى أخرج أنا منها-