الأربعاء، 13 يناير 2010

الشيخ رائد صلاح... شكراً (إقرأها في 7 دقائق)



كنت هنالك مع أولئك الذين إستطاعوا الدخول لمبنى المحكمة حيث قاضت دولة إسرائيل الشيخ رائد صلاح بتهمةٍ هي "مهاجمة" شرطي وإهانته وإعاقته في أداء وظيفته, وهذه التهمة هي الإدعاء أن الشيخ قام بالبصق على أحد رجال الشرطة.
قبل الدخول وعند وصولي لباب المحكمة كان هنالك عشرات الأشخاص يصطفون حول المدخل وأمامه, حيث تم السماح فقط لبضع أشخاص بالدخول الى المحكمة, وإصطف عشرات الشباب تبدو على ملامحهم سمات الترقب والتوتر, وكأن لسان حالهم يقول "الله يحمي الشيخ من ظلم الإحتلال".

على باب المدخل أبرزت بطاقتي الزرقاء التي تدل على مهنتي كمحامي, وكأنها كلمة إفتح يا سمسم قالها علي بابا على باب المغارة, فإنفرجت صفوف رجال الأمن لتسمح لي بالدخول.
تقدمت بضع خطوات لأرى ذالك الشخص فارع الطول عريض المنكبين, أصبح من العلامات الملازمة للشيخ, كان ذالك حراسه الشخصي الشيخ محمد والذي كان بحكم مهمته يلازم الشيخ كظله, عانقته وسلمت عليه حيث تجمع بيننا علاقة قوية من القرابة والألفة والصداقة, فهو عم زوجتي, سلمت عليه وأنا ألمح على محياه علامات الترقب والتوتر فحاولت التخفيف عنه قائلاً الله يفرج كرب الشيخ.
كان الشيخ يقف هنالك, بجانبه, محاط بعشرات الأشخاص إحاطة السوار بمعصم اليد, يلبس على رأسه قبعة بيضاء زادته وقاراً وهيبه, زينت قسمات وجهه إبتسامته الهادئة الواثقة من قدر الله, وبالرغم من ملامحه التي أظهرت عليه التعب والإعياء من كثرة الجهاد والرباط في سبيل الله, فكأن لسان حاله يقول للجميع, لا تقلقوا علي يا أبنائي, إن معي ربي سيهدين.

على طول الدرج الملتوي الذي يصعد للطابق الثاني إصطف عشرات المصورين والصحفيين, فاق عددهم العشرين. كل أمسك بكامرته يصوبها نحو الشيخ, كل يريد أن يلتقط لحظة يأس أو خوف على ملامح الشيخ, لكن أي منهم لم يرى عليه ذالك.

في الأعلى حيث قاعة القاضي "شمعوني" الملقب "بالمختار" عند المحاميين, كان العديد من رجال الأمن, قد وضعوا الحواجز ومنعوا الدخول لقاعة المحكمة إلا للشيخ وعدد قليل جداً من مرافقيه.
وقفت بجانب القاعة أنا وصديق لي يعمل بالمحكمة, بادرني بالقول أنه قبل أسبوعين أخبرهم أحد الأشخاص المطلعين في المحكمة, أن قرار الحكم سيكون بسجن الشيخ سجن فعلي. قلت له لا يمكن ذالك, فدرجة العقوبة على مخالفات مشابهة يمكن أن تصل ل 3 أشهر خدمة للجمهور كأقصى حد, ولكن أن يكون سجن فعلي فهذا أمر أستبعده, بعدها بدقائق تبين حجم خطئي.

في أثناء وقوفنا خرج "المختار" من غرفته كأنه يريد النظر الى عدد الناس الذين إصطفوا خارج القاعة. كان هو من القضاة الذين يحبون أن يكونوا وسط الإهتمام وترقب العيون لهم, وبعد دقائق عاد لغرفته ودخل قاعة المحكمة مستعداً لقراءة الحكم. حقيقة لم أتوقع هذه الحكم الجائر بالرغم مما أعرفه عن مواقف "المختار" السياسية, فهو من أصول عربية.

دخل الشيخ الى قاعة المحكمة وتم إغلاق الباب,وفي الخارج إنتظرنا النطق بالحكم مع الصحفيين والأشخاص الذين تم السماح لهم بالدخول.
وقفت أنا وصديق لي من أفضل المحاميين الجنائيين وصديق أخر يعمل بالترجمة كان قد حضر إحدى جلسات الشيخ. تحدثنا فيما بيننا عن ما سيحدث وعن "طاقم" المحاميين الذين يتولون الدفاع عن الشيخ, وكيف أن إدارة القضية كانت بشكل سيئ للغاية لا يتناسب مع مكانة الشيخ, وكان رأيي أن الشيخ يحتاج أن تكون معه نخبة من المحاميين المتميزين إذا أراد بالفعل اللعب وفق قوانين الإحتلال وقوانينه.

بعد دقائق بدأ الصخب والضجيج يعلو, علا صوت أحدهم ليقول أن المحكمة قد فرضت السجن الفعلي 9 أشهر على الشيخ. بداية لم أصدق ذالك وسألت صحفياً أظنه يعمل في جريدة "هأرتس" أكد لي الخبر.
بدأت جموع الصحفيين تتفرق, بعضها إنتظر الشيخ لتصوير ملامحه, وبعضهم الأخر نزل لمدخل المحكمة حيث كان أحباء الشيخ ينتظرونه, وحيث كان من المتوقع أن يخاطبهم الشيخ كما عودهم.

نزلت أنا لمدخل المحكمة يعتصرني الغضب والألم, فأنا أعرف ما معنى أن يدخل شخص السجن, وأعرف قسوة الإحتلال ومدى حقدهم على الشيخ, فهو من القادة القلائل الذين لا ينافقون ولا يغازلون الإحتلال ولا يوادد السلطات. أغضبني أكثر ما أغضبني أنه لم يكن بإستطاعتي فعل شيئ للشيخ, تمنيت لو أني كنت داخل المحكمة لأفعل ما أظنني أمتاز به, ولو على الأقل إسماع كلمة حق لدى سلطان جائر, أو على الأقل تفريغ غضبي.
كانت تلك لحظات نادرة تحصل لي مرة بضع سنوات, تمنيت فيها لو أني كنت فيها من أبناء الحركة الشمالية لأدافع بها عن الشيخ في المحكمة, ففقط أولئك يمكنهم الوصول الى الشيخ.

وقفت جانباً أراقب وجوه الشباب الذين إصطفوا بالخارج ينتظرون رؤية الشيخ والتعبير له عن حبهم, كان أحدهم يقود الجموع بتكبيره وبصراخه " شيخ الأقصى .. رائد" وكان الجميع يردد وراءه.

أخيراً خرج الشيخ من باب المحكمة, أخذ صراخ الشباب وتكبيرهم يعلو. لوح لهم الشيخ بيده والإبتسامة لا تفارق محياه, وكأنه يقول لهم, لا تحزنوا علي, فالسجن لن يزيحني عن دعوتي ولا عن عن قضيتي, فالسجن للأبطال والمجاهدين والأنبياء, فهل من قدوة أفضل من يوسف الصديق نبي الله؟ وهل من قدوة خير من سيد المجاهدين الشيخ أحمد ياسين؟ وهل من أبطال خير من عمر المختار؟ كلهم سجنوا ظلماً ولكن أي منهم لم يتخلى عن مبادئه ودعوته الى الله.

كان الشيخ يشبه أكثر ما يشبه عمر المختار في عزته وشموخه وجبروته. تفحصت ملامحه عن كثب محاولاً إستكشاف مشاعره, بالرغم من جبروته فقد لمحت في الشيخ بعض الحزن, تلك النظرة رأيتها مرات عديدة على وجوه المظلومين في المحاكم. كانت نظرة لا بد منها تظهر من دون سيطرة لك عليها.

لحظات وبدأت خطابات قصيرة لقيادات الجماهير العربية, تكلم فيها محمد زيدان رئيس لجنة المتابعة ومحمد بركة رئيس الجبهة, وأخرين لم أهتم لسماعهم.
أحببت لو أن قادة إسلاميين من الحركة الجنوبية تنازلوا عن بعض من كرامتهم وتواجدوا للتضامن مع الشيخ, فهذا أقل واجب إتجاه أخ مسلم, بل هي قد تكون أكثر خطوة سياسية حكيمة, ولكن كما يبدو فإن ران القلوب وقسوة التشقق والإنشقاق منعت النور والحكمة من الوصول للعقول كما القلوب.

سررت حين إنتهاء خطابات اولئك "القادة", حقيقة أنا لا أرى أياً منها يمثلني, فقياداتنا وللأسف ضعيفة ولا ترتقي لمستوى المسؤوليات والأولويات, ولكن كما يبدو فإن حال مجتمعنا لا يستحق قادة أفضل ييسرهم الله لنا.

بعد لحظات من الصمت تحدث الشيخ, بنبرته القوية الهادئة التي تبعث في القلوب الإطمئنان والثقة بقدر الله, طمأن محبيه على حاله, وأكد أن شيئاً لن يزيحه عن دربه وعن قضيته, وإن كان لا بد من السجن ثمناً للجنة فنعم الثمن يدفعه.كانت كلماته قصيرة ومختصرة, أنهاها الشيخ وكأنه يريد الجلوس مع نفسه وأهله للراحة والتفكير في المستقبل والمصير.
رأيت سائق سيارة الشيخ يذهب لإحضار سيارته , وعرفت أنها لحظة فراق الشيخ, كان الكثير من الشباب يعانقون الشيخ ويقبلونه, محتاجين هم أكثر منه للثبات والصبر, فكأنه حتى في تلك اللحظات يزرع الثبات والصبر في الشباب.
خجلت أنا من الشيخ ومن عناقه, فأنا لم أجد أن أحداً قدم للإسلام مثلما قدمه الشيخ حتى يستحق عناقه. فإكتفيت بالنظر اليه من بعيد.

على بعد خطوات منه إعتلى نائب الشيخ حاجزاً حجرياً كان على الأرض, فبدا النائب أطول من الموجودين ولكنه لم يكن في علو الشيخ وزهوه, ربما حاول الصعود على ذالك الحاجز ليبدو في مكانة الشيخ, لكن أحداً لم يكن في مكانة الشيخ.
لحظات ونزل النائب عن الحاجز, ربما لاحظ أن المكان والموقف لا يسمح بالإرتفاع فوق الشيخ, فحتى لو أن الشيخ دخل غياهب السجن فسيبقى هو النائب والشيخ هو الشيخ. تحدث النائب الى الجموع محاولاً تلطيف الموقف وإظهار بعض من روح الدعابة كأن ما حدث هو أمر عابر, وكأن الشيخ إعتاد على السجن, وكأن الجموع إعتادت على غياب الشيخ. ولكن أي من الجموع لم يعتد على غياب الشيخ وفراق الشيخ, فقد كان يعيش فيهم وفي قلوبهم, فهو القائد الوحيد الذي يلهب مشاعر الجماهير ويظهر بالرغم من مكانته كواحد من الشعب.
نظرت إلى النائب وقلت في نفسي, لو أنك تكون يوماً بشجاعة الشيخ وأن تجرب مراراً السجن عنه, علك تريحه من بعض الثقل الذي يضعه على عاتقه.

مضت لحظات وتوقفت السيارة السوداء أمام الشيخ, لوح بيده للجموع ونظر إليهم نظرة محبة وفراق أخيرة, سارع الشيخ بالدخول للسيارة, دخل الحارس الشخصي للسيارة وراءه وأغلق الباب وراء الشيخ. سارت السيارة السوداء تشق صفوفها بين الحشود مبتعدةً عن الأنظار.
لقد تركنا الشيخ.
مضت لحظات وتلبدت السماء بالغيوم السوداء, سرعان ما بدأ المطر بالهطول. لا أدري أهي أمطار الخير والبركة أم هي السماء تبكي حزناً لمصاب الشيخ.

هناك 6 تعليقات:

  1. تدوينة مثيرة .. وثرية !!

    بارك الله فيك .. ايها المدون المحامي :)

    ردحذف
  2. عِشْتَ فينا رَغم قَيدِ الحاقِدينَ ...حفظك الله شيخي رائد صلاح
    بارك الله فيكَ اخي وسام غنايم ... أبدعت

    ردحذف
  3. السلام عليكم

    بارك الله فيك

    وصف جميل لواقع مرير

    هذا غدر الزمان ، الاسود تبقى اسود


    الله يفك اسر اهلنا واخوتنا واحبابنا المظلومين المحكومين ظلما وزورا وبهتانا .
    د
    شادي ابومُخ

    ردحذف
  4. احدى خريجات الرساله16 يناير 2010 في 3:34 م

    ابدعت اخي وسام ما اجمل ما تصفه فانا حزينه على الواقع المرير والعصيب الذي تمر به امتنا الاسلاميه وبالاخر امر الانشقاق في دعوتنا على ارضنا ارض الاسراء والمعراج وحد صفوفنا وفرج عن كرب الشيخ باذن الله
    احدى خريجات الرساله

    ردحذف
  5. حياكم الله أخوتي على الردود الطيبة وعلى قراءة المقالة
    وفك الله أسر جميع المأسورين ووحد الله صفوف المسلمين في سبيل الدعوة لدينه

    ردحذف
  6. المقالة جميلة اخي...
    ولكن ارى انه من الخطأ التحدث عن الشيخ كمال الخطيب بالطريقة التي تحدثت بها...
    الكل يعلم قوة العلاقة بين الشيخ ونائبه..
    الله يحفظهم الاثنين..

    ردحذف